كتب التاريخ المبكرة مليئة بالقصص الأخبارية المتشابهة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتب التاريخ المبكرة مليئة بالقصص الأخبارية المتشابهة والتي تشابهها يدعو إلى الاعتقاد بأنها موضوعة ومستمد بعضها من البعض الآخر مع تعديل بشخصيات القصة والهدف الذي ترمي إليه، وإلى انها توحي بمبادئ ومعتقدات ذات صلة بالشعوب المروية عنها تلك القصص. ومن كتب التاريخ المبكرة التي تمتلئ بالقصص التي يبدو عليها التناقض ومن ثم الوضع كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. ومن بين تلك القصص قصة زواج امرئ القيس بن حجر الملك الكندي الواردة في الجزء التاسع من أغاني الأصفهاني حيث يقول:
(أخبرني محمد بن القاسم عن مجالد بن سعيد عن عبدالملك بن عمير قال: قدم علينا عمر بن هبيرة الكوفة، فأرسل إلى عشرة أنا أحدهم من وجوه الكوفة فسمروا عنده، ثم قال: ليحدثني كل رجل منكم أحدوثة وابدأ أنت يا أبا عمر فقلت: أصلح الله الأمير! أحديث الحق أم حديث الباطل؟ قال: بل حديث الحق. قلت: إن امرأ القيس آلى ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة وثنتين، فجعل يخطب النساء، فإذا سألهن عن هذا قلن أربعة عشر. فبينما هو يسير في جوف الليل إذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة كأنها البدر ليلة تمامه، فأعجبته، فقال لها: يا جارية! ما ثمانية وأربعة واثنتان؟ فقالت: أما ثمانية فأطباء الكلبة. وأما أربعة فأخلاف الناقة. وأما أثنتان فثديا المرأة. فخطبها إلى أبيها فزوجه إياها. وشرطت هي عليه أن تسأله ليلة بنائها عن ثلاث خصال، فجعل لها ذلك، وأن يسوق إليها مائة من الإبل وعشرة أعبد وعشر وصائف وثلاثة أفراس ففعل ذلك. ثم إنه بعث عبداً له إلى المرأة وأهدى إليها نحيا من سمن ونحيا من عسل وحلة من عصب. فنزل العبد ببعض المياه فنشر الحلة ولبسها فتعلقت بعشرة فانشقت، وفتح النحيين فطعم أهل الماء منهما فنقصا. ثم قدم على حي المرأة وهم خلوف فسألها عن أبيها وأمها وأخيها ودفع إليها هديتها. فقالت له: أعلم مولاك أن أبي ذهب يقرب بعيداً ويبعد قريباً، وأن أمي ذهبت تشق النفس نفسين، وأن أخي يراعي الشمس، وأن سماءكم انشقت، وأن وعاءيكم نضبا. فقدم الغلام على مولاه فأخبره. فقال: أما قولها إن أبي ذهب يقرب بعيداً ويبعد قريباً، فإن أباها ذهب يحالف قوماً على قومه. وأما قولها ذهبت أمي تشق النفس نفسين، فإن أمها ذهبت تقبل امرأة نفساء. وأما قولها: إن أخي يراعي الشمس، فإن أخاها في سرح له يرعاه فهو ينتظر وجوب الشمس ليروح به. وأما قولها إن وعاءيكم نضبا، فإن النحيين اللذين بعثت بهما نقصا، فاصدقني. فقال: يا مولاي، إني نزلت بماء من مياه العرب، فسألوني عن نسبي فأخبرتهم أني ابن عمك، ونشرت الحلة فانشقت، وفتحت النحيين فأطعمت منهما أهل الماء. فقال: أولى لك!. ثم ساق مائة من الإبل وخرج نحوها ومعه الغلام، فنزلا منزلاً. فخرج الغلام يسقي الإبل فعجز، فأعانه امرؤ القيس، فرمى به الغلام في البئر، وخرج حتى أتى المرأة بالإبل، وأخبرهم أنه زوجها. فقيل لها قد جاء زوجك. فقالت: والله ما أدري أزوجي هو أم لا! ولكن انحروا له جزوراً وأطعموه من كرشها وذنبها ففعلوا. فقالت اسقوه لبناً حازراً (وهو الحامض) فسقوه فشرب. فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم، ففرشوا له فنام. فلما أصبحت أرسلت إليه: أني أريد أن اسألك. فقال: سلي عما شئت. فقالت: مم تختلج شفتاك؟ قال: لتقبيلي إياك. قالت: عليكم العبد فشدوا أيدكم به، ففعلوا. قال: ومر قوم فاستخرجوا امرأ القيس من البئر، فرجع إلى حيه، فاستاق مائة من الإبل، وأقبل إلى امرأته. فقيل لها: قد جاء زوجك. فقالت: والله ما أدري أهو زوجي أم لا، ولكن انحروا له جزوراً فأطعموه من كرشها وذنبها ففعلوا. فلما أتوه بذلك قال: وأين الكبد والسنام والملحاء! فأبى أن يأكل. فقالت: اسقوه لبناً حازراً. فأبى أن يشربه وقال: فأين الصريف والرثيئة! فقالت: أفرشوا له عند الفرث والدم. فأبى أن ينام وقال: افرشوا لي فوق التلعة الحمراء، واضربوا عليها خباء. ثم أرسلت إليه: هلم شريطتي عليك في المسائل الثلاث. فأرسل إليها أن سلي عما شئت. فقالت: مم تختلج شفتاك؟ قال: لشربي المشعشعات. قالت: فمم يختلج كشحاك؟ قال: للبسي الحبرات. قالت: فمم تختلج فخذاك؟ قال: لركضي المطهمات. فقالت: هذا زوجي لعمري! فعليكم به، واقتلوا العبد، فقتلوه. ودخل امرؤ القيس بالجارية. فقال ابن هبيرة: حسبكم! فلا خير في الحديث في سائر الليلة بعد حديثك يا أبا عمرو، ولن تأتينا بأعجب منه. فقمنا وانصرفنا. وأمر لي بجائزة) انتهى.
وبعد ان انتهت القصة نورد بعض الملاحظات عليها، فأولاً: نلاحظ ان أبا عمر عندما طلب منه ابن هبيرة الحديث قال له: (أحديث الحق أم حديث الباطل؟ قال: بل حديث الحق). هذا السؤال يدل على أن رواية الأحداث الأخبارية غير الحقيقية أمر كان شائعاً بين الناس وبخاصة قصاصي الأخبار وربما أن هذه القصة من قصص التسلية والمحاكاة.
ثانياً: يقول القاص: (بينما هو يسير في جوف الليل إذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة كأنها البدر ليلة تمامه). هذه الفقرة تدعو إلى التساؤل، فكيف عرف أن الفتاة كالبدر وهو يسير في جوف الليل؟ وكيف يطلب الزواج من فتاة لا يعرف من هي؟ وهل يعقل ان يطلب الزواج من فتاة كان والدها يحملها لصغر سنها؟
ثالثاً: من الملاحظات تصرفات التعالي التي كسى القاص امرأ القيس بها، أما لماذا؟ فلأنه كان يتحدث عن ملك أو نبيل منحدر من أسرة عريقة ليفرقه عن الغلام الذي صفاته تدل على رداءة أصله وسوء تربيته كما صورها القاص بحسبما كان يعتقد. وهذه ليست قاعدة، فكم غلام جاء خيراً من سيده.
رابعاً: نلاحظ ان هذه القصة تشابه في أحداثها وأبطالها قصة مقتل عدي بن ربيعة (المهلهل) فارس تغلب. ففي قصة مقتل المهلهل نجد ان المهلهل يقوم بدور امرئ القيس، وأن العبدين اللذين قتلا مهلهلاً يقومان مقام غلام امرئ القيس، وان ابنة المهلهل تقوم بدور الفتاة التي كان امرؤ القيس يريد الزواج بها. ونجد أيضاً ان المحاور شبيهة ببعضها البعض مكونة من أسئلة تقوم على حل ألغاز يومىء اليها برموز . ونجد أيضاً أن القصة شبيهة بقصة الفتاة التي اشترطت على من يريد الزواج بها ان يجيبها على عدة اسئلة هي تطرحها فيفشل الكثير وينجح من كان يعتقد ان يفشل ويفوز بالفتاة. اعتقد ان هذه القصص والشبية بها لا تروي أحداثاً تاريخية والأقرب أنها تصوّر أموراً لها صلة باعتقادات ومبادئ تلك الأمم القديمة.